إن نعم الله تعالى علينا تعالى علينا لا تعد ولا تحصى , ومن اجلها أعظمها
بركة وخير ورحمة بالعباد إن هيا للعباد الصدقة الجارية التي يوقفها العبد
احتساباً للأجر من الله وتقرباً إليه فينفقها في هلكته بالحق فتجري بالجر
وترتفع بها الدرجات مادامت هذه العين الموقفة شجرة خضراء مثمرة يستظل بها
العابر ويأكل منها الطائر وترتوي منها الكبد الطبية العطشى
وقد اشتهر إطلاق لفظ الوقف على الصدقة الجارية التي وردت في حديث الرسول
{إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث أشياء: صدقة جارية, أو علم ينتفع
به, أو ولد صالح يدعو له}رواه مسلم
وقيدت الصدقة بالجارية هاهنا لتميزها عن بقية الصدقات كونها تجري بالنفع
ردحاً من الزمن فلا ينقضي نفعها لمن جلت له حتى يفنى أصلها أو تخرب, فتظل
نافعة مادامت صالحة قائمة
ويقصد بالوقف شرعاً: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة .أي حبس الأصل بحيث لا
يباع ولا يوهب ولا يورث, وما كان من منفع وخراجه وريعه فيكون في اوجه البر
المختلفة يصرف في سبيل الله لمنفعة ذات الأرواح من الجن والإنس والطير
والدواب كما قال رسول الله (..وفي كل كبد رطبة اجر ). وأوجه البر تتفاضل
بحسب حاجة الناس إليها , فكل ما كان الناس إليه أحوج كان أجدى وأفضل بحسب
زمانهم ومكانهم . فإن رسول الله فيما رواه عثمان رضي الله عنه حين احتاج
الناس بالمدينة إلى الماء قال: {من حفر بئراً رومة فله الجنة قال عثمان:
فحفرتها}رواه البخاري
وعن أنس رضي الله عنه قال:{كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة مالاً وكان
أحب أمواله إليه بيرحاء ,وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله يدخلها
ويشرب من ماء فيها طيب, فلما نزلت هذه الآية الكريمة {لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون}قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: إن الله تعالى يقول في
كتابه الكريم الكريمة {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}وإن أحب
أموالي إلي بيرحاء, وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا
رسول الله حيث شئت. فقال بخٍ ذلك مال رابح , ذلك مال رابح , ذلك , قد سمعت
ما قلت فيها , وإني أرى أن تجعلها في الأقربين, فقسمها أبو طلحة في أقاربه
وبني عمه }رواه البخاري ومسلم
وحين احتاج الناس إلى ما يكون للجهاد في سبيل الله قال الرسول r فيما
يرويه عن أبو هريرة رضي الله عنه : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً
واحتساباً فإن شعبه وروثه وبوله في ميزان القيامة حسنات) رواه البخاري
وأحمد
ولما كانت المدينة بحاجة إلى مسجد أوقف بعض الصحابة حائطهم لله تعالى ,
فعن أنس رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله r المدينة وأمر ببناء
المسجد قال: يا بني النجار : تأمنوني بحائطكم هذا ؟قالوا: والله لا نطلب
ثمنه إلا إلى الله تعالى .فأخذه فبناه مسجداً) رواه البخاري
وهكذا بحسب حال الناس وحاجاتهم إن كانوا للماء أحوج كان وقف الماء أفضل ,
وإن كانت المساجد تقل فيهم الصدقة فيها أولى, وإن كانت حاجتهم للتعليم
والتفقيه في دينهم قائمة كان ما يوقف لهذا الغرض أبر فضلاً عند الله , وإن
كانت الفاقة في الناس والفقر والجوع كان ما يحبس لسد فاقتهم أعظم درجة عند
الله
وتنوع أوجه البر وتعددها منة من الله وفضل عظيم يتسابق فيه الموسرون ويتنافسون عليه , ونعمته, فله الحمد من قبل ومن بعد
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ما جاء به القران الكريم من حث عظيم على
الأنفاق فتنافسوا في سبيل الله امتثالا لله عز وجل حيث قال: (وما أنفقتم
من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) وقال تعالى : ( قل لعبادي الذين آمنوا
يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ). وطاعة لرسوله r في
فعله وأمره وحثه وترغيبه في الصدقة بقوله: (إذا مات ابن آدم. . .)الحديث.
فكان لم رضوان الله عليهم قصب السبق والقدح المعلّى في ذلك يتنافسون أهل
الدنيا علي دناهم , يقول الله تعالى: (وفي ذلك فلتنافس المتنافسون
فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان أرض نخيل بخبر , من أجود
العقار اسمها (ثمغ) فجاء إلى النبي r يستشيره فيما يعمل بها لإحراز البر
عند الله فقال يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس
عندي منه فما تأمرني؟ فأجابه : (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرها) فجعلها
عمر رضي الله عنه لا تباع ولا توهب ولا تورث, وتصدق بها على الفقراء
والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب والغزاة في سبيل الله والضيف لا جناح
على من وليها آن يأكل منها بالمعروف , وأن يطعم صديقاً غير متمول منه .
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه (لما كتب عمر بن الخطاب صدقته في
خلافته, ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار فأحضرهم ذلك وأشدهم عليه فأنتشر
خبرها فلم أجد أحداً من المهاجرين و الأنصار حبس مالاً من ماله صدقة مؤبدة
لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث
ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف
ثم تتابعت أوقاف الصحابة رضي الله عنهم بعد وقف عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تصدق من أمواله على نحو صدقة عمر
, وكذا علي بن أبى طالب رضي الله عنه وتصدق بأرضه (ينبع )حبساً على
الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل والقريب والبعيد في السلم
والحرب , بلغ جذاذها في زمن علي رضي الله عنه ألف وسق(حمل بعير).وقف
الزبير دوره على بنيه لاتباع ولا تورث ولا توهب
كما كان لأبى طلحة رضي الله عنه حديقة نفيسة اسمها (بيرحاء) فأتى النبي r
فقال يا رسول الله : (حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى ولو استطعت أن
أسره ما أعلنته) فقال r : (اجعله في قرابتك
وقف أيضاً من الصحابة معاذ بن جبل , وزيد بن ثابت , وعائشة أم المؤمنين
وأختها أسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد
الله وسعد بن عبادة وعقبة بن نافع وعامر و عبد الله بن الزبير وغيرهم رضي
الله عنهم
ولما عم الرخاء في بلاد المسلمين شرقاً وغرباً وانتظمت الأوقاف وكثرت
العناية بها, وتنوعت في مصارف البر فكان التنافس فيها عظيماً, والتسابق
إليها عجيباً فلم يبق مصرفاً من مصارف البر والخير إلا أوقف عليه. فكان
يوقف على تعبيد الطرق , وإنارتها بالسرج , ويوقف على الأحرار والعبيد
والجواري , ويوقف على لم الشمل وتفريج الكرب , حتى بلغ الأمر بالوقف
مبلغاً عظيماً فأصبحت الموارد الأساسية للصرف على خدمات البلاد الإسلامية
في نواحيها وأطرافها , ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب بل لما اكتفى
الناس واستغنوا بالأوقاف جاء من يوقف على الحيوانات احتساباً للأجر من الله
وهكذا فقد كان الوقف أول ما كان على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي
الرقاب والضيف من الذرية وغيرهم من فقراء المسلين كما سلف في أوقاف
الصحابة. ثم بعد ذلك كثرت الأوقاف وتنوعت أوجه صرفها , فكانت من الدعائم
الكبرى للمؤسسات العلمية والقائمين بإحياء شعائر الدين ونشر تعاليمه. وقد
نشطت في البلاد الإسلامية على اتساع رقعتها حركة علمية منقطعة النظير أتت
بالعجائب في النتاج العلمي ونشر الثقافة الإسلامية على أيدي فحول العلماء
الذين لمعوا في التاريخ الإسلامي وكان معظمهم من آثار الأوقاف العلمية
وأما أصول الوقف التي تحبس في سبيل الله فليست محصورة في مجال واحد بل
توقف المزارع والدور ,والمحلات التجارية, والعقار ,والعتاد, وكل ما كان
عيناً ذات ريع أو منفعة.